فصل: ذكر خلاف أهل فلسطين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكرنسب الوليد وبعض سيرته:

هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص ابن عبد شمس بن عبد مناف الأموي، يكنى أبا العباس، وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي، وهي بنت أخي الحجاج بن يوسف، وأم أبيه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وأمها أم كلثوم بنت عبد الله ابن عامر بن كريز، وأم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب؛ فلذلك يقول الوليد:
نبي لهدى خالي ومن بك خاله ** نبي الهدى يقهر به من بفاخره

وكان من فتيان بني أمية وظرفائهم وشجعانهم وأجوادهم وأشدائهم، منهمكاً في اللهو والشرقب وسماع الغناء فظهر ذلك من أمره فقتل. ومن جيد شعره ما قاله لما بلغه أن هشاماً يريد خلعه:
كفرت يداً من منعم لو شكرتها ** جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن

وقد تقدمت الأبيات الأربعة، وأشعاره حسنة في الغزل والعتاب ووصف الخمر وغير ذلك، وقد أخذ الشعراء معانيه في وصف الخمر فسرقوها وأدخلوها في أشعارهم وخاصة أبو نواس فإنه أكثرهم أخذاً لها.
قال الوليد: المحبة للغناء تزيد في الشهرة، وتهدم المروءة، وتنوب عن الخمر، وتفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء رقية الزنا، وإني لأقول ذلك علي وإنه أحب إلي من كل لذة، وأشهى إلى نفسي من الماء إلى ذي الغلة، ولكن الحق أحق أن يتبع.
قيل: إن يزيد بن منبه مولى ثقيف مدح الوليد وهنأه بالخلافة، فأمر أن تعد الأبيات ويعطى بكل بيت ألف درهم، فعدت فكانت خمسين بيتاً فأعطي خمسين أف درهم، وهو أول خليفة عد الشعر وأعطى بكل بيت ألف درهم.
ومما شهر عنه أنه فتح المصحف فخرج: {واستفتحوا وخاب كل جبارٍ عنيدٍ} [ابراهيم: 15] فألقاه ورماه بالسهام وقال:
تهددني بجبار عنيدٍ ** فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشرٍ ** فقل يا رب مزقني الوليد

فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيراً حتى قتل.
ومن حسن الكلام ما قاله الوليد لما مات مسلمة بن عبد الملك، فإن هشاماً قعد للعزاء، فأتاه الوليد وهو نشوان يجر مطرف خز عليه، فوقف على هشام فقال: يا أمير المؤمنين، إن عقبى من بقي لحوق من مضى، وقد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن رمى، واحتل الثغر فهوى، وعلى أثر من سلف يمضي من خلف، {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} البقر: 197. فأعرض هشام ولم يحر جواباً، وسكت القوم فلم ينطقوا.
وقد نزه قوم الوليد مما قيل فيه وأنكروه ونفوه عنه وقالوا: إنه قيل عنه والصق به وليس بصحيح. قال المدائن: دخل ابن للغمر بن يزيد أخي الوليد على الرشيد، فقال له: ممن أنت؟ قال: من قريش. قال: من أيها؟ فأمسك، فقال: قل وأنت آمن ولو أنك مروان. فقال: أنا ابن الغمر بن يزيد. فقال: رحم الله عمك الوليد ولعن يزيد الناقص، فإنه قتل خليفة مجمعاً عليه! ارفع حوائجك. فرفعها فقضاها.
وقال شبيب بن شبية: كنا جلوساً عند المهدي فذكروا الوليد، فقال المهدي: كان زنديقاً، فقام أبو علاثة الفقيه فقال: يا أمير المؤمنين إن الله، عز وجل، أعدل من أن يولي خلافة النبوة وأمر الأمة زنديقاً، لقد أخبرني من كان يشهده في ملاعبه وشربه عنه بمروءة في طهارته وصلاته، فكان إذا حضرت الصلاة يطرح الثياب التي عليه المطايب المصبغة ثم يتوضأ فيحسن الوضوء ويؤتى بثياب نظاف بيض فيلبسها ويصلي فيها، فإذا فرع عاد إلى تلك الثياب فلبسها واشتغل بشربه ولهوه، فهذا فعال من لا يؤمن بالله! فقال المهدي: بارك الله عليك يا أبا علاثة!

.ذكر بيعة يزيد بن الوليد الناقص:

في هذه السنة بويع يزيد بن اوليد الذي يقال له الناقص، وإنما سمي الناقص لأنه نقص الزيادة التي كان الوليد زادها في عطيات الناس، وهي عشرة عشرة، ورد العطاء إلى ما كان أيام هشام، وقيل: أول من سماه بهذا الاسم مروان بن محمد.
ولما قتل الوليد خطب يزيد الناس فذمه وذكر إلحاده وأنه قتله لفعله الخبيث وقال: أيها الناس إن لكم علي أن لا أضع حجراً على حجر ولا لبنة ولا أكتر نهراً ولا أكثر مالا ولا أعطيه زوجةً وولداً ولا أنقل مالاً عن بلد حتى أسد ثغره وخصاصة أهله بما يغنيهم، فما فضل نقلته إلى البلد الذي يليه، ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم، ولا أغلق بابي دونكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم، ولكم أعطياتكم كل سمنة وأرزاقكم في كل شهر حتى يكون أقصاكم كأدناكم، فإن وفيت لكم بما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن الوزارة، وإن لم أف فلكم أن تخلعوني إلا أن أتوب، وإن علمتم أحداً ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيكم وأردتم أن تبايعوه فأنا أول من يبايعه. أيها الناس لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

.ذكر اضطراب أمر بني أمية:

في هذه النسة اضطرب أمر بني أمية وهاجت الفتنة، فكان من ذلك وثوب سلمان بن هشام بن عبد الملك بعد قتل الوليد بعمان، وكان قد حبسه الوليد بها، فخرج من الحبس وأخذ ما كان بها من الأموال وأقبل إلى دمشق وجعل يلعن الوليد ويعبه بالكفر.

.ذكر خلاف أهل حمص:

لما قتل الوليد أغلق أهل حمص أبوابها وأقاموا النوائح والبواكي عليه، وقيل لهم: إن العباس بن الوليد بن عبد الملك أعان عبد العزيز على قتله، فهدموا داره وأنهبوها وسلبوا حرمه وطلبوه، فسار إلى أخيه يزيد، فكاتبوا الأجناد ودعوهم إلى الطلب بدم الوليد، فأجا بوهم واتفقوا أن لا يطيعوا يزيد، وأمروا عليهم معاوية بن يزيد بن الحصين بن نمير، ووافقهم مروان بن عبد الله بن عبد الملك على ذلك.
فراسلهم يزيد فلم يسمعوا وجرحوا رسله. فسير إليهم أخاه مسروراً في جمع كثير، فنزلواحوارين، ثم قدم على يزيد سليمان بن هشام، فرد عليه يزيد ما كان الوليد أخذه من أموالهم وسيره إلى أخيه مسرور ومن معه وأمرهم بالسمع والطاعة له.
وكان أهل حمص يريدون المسير إلى دمشق، فقال لهم مروان بن عبد الملك: أرى أن تسيروا إلى هذا الجيش فتقاتلوهم فإن ظفرتم بهم كان من بعدهم أهون عليكم، ولست أرى المسير إلى دمشق وترك هؤلاء خلفكم. فقال: السمط ابن ثابت: إنما يريد خلافكم وهو ممايل ليزيد والقدرية. فقتلوه وقتلوا ابنه وولوا أبا محمد السفياني وتركوا عسكر سليمان ذات اليسار وساروا إلى دمشق.
فخرج سليمان مجداً فلحقهم بالسليمانية، مرزعة كانت لسليمان بن عبد اللك خلف عذراء، وأرسل يزيد بن الوليد عبد العزيز بن الحجاج في ثلاثة آلاف إلى ثنية العقاب، وأرسل هشام بن مصاد في ألف وخمسمائةإلى عقبة السلامية، وأمرهم أن يمد بعضهم بعضاً. ولحقهم سليمان ومن معه على تعبٍ، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت ميمنة سليمان ويمسرته وقثبت هو في القلب، ثم حمل أصحابه على أهل حمص حتى ردوهم إلى موضعهم وحمل بعضهم على بعض مراراً.
فبينا هم كذلك إذ أقبل عبد العزيزي بن الحجاج من ثنية العقاب فحمل ععلى أهل حمص حتى دخل عسكرهم وقتل فيه من عرض له، فانهزموا، ونادى يزيد بن خالد بن عبد الله القسري: الله الله في قومك! فكف الناس، ودعاهم سليمان بن هشام إلى بيعة يزيد بن الوليد، وأخذ أبو محمد افيانس أسيراً، ويزيد بن خالد بن زيد بن معاوية أيضاً، فاتي بهما سليمان، فسيرهما إلى يزيد فحبسهما، واجتمع أمر أهل دمشق ليزيد بن الوليد، وبايعه أهل حمص، فأعطاهم يزيد العطاء وأجاز الأشراف؛ واستعمل عليهم يزيد بن الوليد معاوية بن الحصين.

.ذكر خلاف أهل فلسطين:

وفي هذه السنة وثب أهل فلسطين على عاملهم سعيد بن عبد الملك فطردوه، وكان قد استعمله عليهم الوليد، وأحضروا يزيد بن سليمان بن عبد الملك فجعلوه عليهم وقالوا له: إن أمير المؤمنين قد قتل فتول أمرنا. فةليهم ودعا الناس إلى قتال يزيد، فأجابوه.
وكان ولد سليمان ينزلولون فلسطين، وبلغ أهل الأردن أمر أهل فلسطين فولوا عليهم محمد بن عبد الملك واجتمعوا معهم على قتال يزيد بن الوليد، وكان أمر أهل فلسكين إلى سعيد بن روح وضبعان بن روح.
وبلغ خبرهم يزيد بن الوليد فسير إليهم سليمان بن هشام بن عبد الملك في أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني، وكانت عدتهم أربعة وثمانين ألفاً، وأرسل يزيد بن الوليد إلى سعيد وضبعان ابني روح فوعدهما وبذلل لهما الولاية والمال، فرحلا في أهل فلسطين ويقي أهل الأردن، فأرسل سليمان خمسة آلاف فنهبوا القرى وساروا إلى طبرية، فقال أهل طبرية: ما نقين والجنود تجوس منازلنا وتحكم في أهلينا، فانتهبوا يزيد بن سليمان ومحمد ابن عبد الملك وأخذوا دوابهما وسلاحهما ولحقوا بمنازلهم. فملا تفرق أهل فلسطين والأردن سار سليمان حتى أتى الصنبرة وأتاه أهل الأردن فبايعوا يزيد بن الوليد، وسار إلى طبرية فصلى بهم الجمعة، وبايع من بها، وسار إلى الرملة فأخذ البيعة على من بها، واستعمل ضبعان بن روح على فلسطين وإبراهيم بن الوليد بن عبد الملك على الأردن.

.ذكر عزل يوسف بن عمر على العراق:

ولما قتل الوليد استعمل يزيد على العراق منصور بن جمهور، وكان قد ندب قبله إلى ولاية العراق عبد العزيز بن هارون بن عبد الله بن دحية بن خليفة الكلبي، فقال: لو كان معي جبند لقبلت. فتركه وزاستعمل منصوراً، ولم يكن منصور من أهل الدين وإنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانية وحمية لقتل يوسف خالداً القسري، فشهد لذلك قتل الوليد وقال له لما ولاه العراق اتق الله واعلم اني إنما قتلت الوليد لفسقه ولما أظهر من الجور، فلا تركب مثل ما قتلناه عليه.
ولما بلغ يوسف بن عمر قتل الوليد عمد إلى من بحضرته من اليمانية فسجنهم ثم جعل يخلوا بالرجل بعد الرجل من المضرية فيقول:: ما عندك إن اضطراب الحيل؟ فيقول المضري: أنا رجل من أهل الشام أبايع من بايعوا وأفعل ما فعلوا. فلم ير عندهم ما يجب فأطلق الميانية.
وأقبل منصور، فملا كان بعين التمر كتب إلى من بالحيرة من قواد أهل الشام يخبرهم بقتل الوليد وتأميره على العراق يوأمرهم بأخذ يوسف وعماله، وبعث الكتب كلها إلى سليمان بن سليم بن كيسان ليفرقها على القواد، فحبس الكتب وحمل كتابه فأقراه يوسف بن عمر، فتحير في أمره وقال لسليمان: ما الرأي؟ قال: ليس لك إمام تقاتل أهل الشام معك، ولا آمن عليك منصوراً، وما الرأي إلا أن تلحق بشامك. قال: فكيف الحيلة؟ قال: تظهر الطاعة ليزيد وتدعو له في خطبتك، فإذا قرب منصور تستخفي عندي وتدعه والعمل. ثم مضى سليمان إلى عمرو بن محمد ابن سعيد بن العاص فأخبره بأمره وسأله أن يؤدي يوسف بن عمر عنده، ففعل، فانتقل يوسف إليه، قال: فلم ي رجل كان له مثل عتوه خاف خوفه.
وقدم منصور الكوفة فخطبهم وذم الوليد ويوسف، وقامت الخطباء فذموهما معه، فاتى عمرو بن محمد إلى يوسف فأخبره، فجعل لا يذكر رجلاً ممن ذكره بسوء إلا قال: له علي أن أضربه كذا وكذا سوطاً! فجعل عمرو يتعجب من طمعه في الولاية وتهدده الناس.
وسار يوسف من الكوفة سراً إلى الشام فنزل البلقاء، فملا بلغ خبره ابن الوليد وجه إليه خمسين فارساً، فعرض رجل من بين نيمر ليوسف فقال: يا بن عمر أنت والله مقتول فأطعني وامنع. قالك لا. قال: فدعني أقتلك أنا ولا تقتلك هذه اليمانية فتغيظنا بقتلك. قال: ما لي فيما عرضت جنان. قال: فأنت أعلم.فطلبه المسيرون لأخذه فلم يروه، فهدوا ابنا له، فقال: إنه انطلق إلى مزرعة له؛ فساروافي طلبه، فلما أحس بهم هرب وترك نعليه، ففتشوا عنه فوجدوه بين نسوة قد ألقين عليه قطيفة خز وجلسن على حواشيها حاسرات، فجروا برجله وأخذه وأقبلوا به إلى يزيد، فوثب عليه بعض الحرس فأخذ بلحيته ونتف بعضها، وكان من أعظم الناس لحيةً وأصغرهم قامةً، فلما أدخل على يزيد قبض على لحية نفسه، وهي إلى سرته، فجعل يقوزل: يا أمير المؤمنين نتف والله لحيتي فما أبقى فيها شعرة! فأمر به فحبس بالخضراء، فأتاه إنسان فقال له: أما تخاف أن يطلع عليك بعض من قد وترت فيلقي عليك حجراً فيقتلك؟ فقال: ما فطنت لهذا. فأرسل إلى يزيد يطلب منه أن يحول إلى حبس غير الخضراء وإن كان أضيق منه. فعجب من حمقه، فنقله وحبسه مع ابني الوليد، فبقي في الحبس ولاية يزيد وشهرين وعشرة أيام من ولاية إبراهيم، فلما قرب مروان من دمشق ولى قتلهم يزيد بن خالد القسري مولى لأبيه خالد يقال له أبو الأسد.
ودخل منصور بن جمهور لأيام خلت من رجب فأخذ بيوت الأموال وأخرج العطاء والأرزاق وأطلق من كان في السجون من العمال وأهل الخراج وبايع ليزيد بالعراق وأقام بقية رجب وشعبان ورمضان وانصرف لأيام بقين منه.

.ذكر امتناع نصر بن سيار على منصور:

وفي هذه السنة امتنع نصر بن سيار بخراسان من تسليم عمله لعامل منصور ابن جمهور وكان يزيد ولاها منصواً مع العراق، وقد ذكرنا فيما تقدم ما كان من كتاب يوسف بن عرم إلى نصر لامسير إلهي ومسير نصر وتباطئه وما معه من الهدايا، فاتاه قتل الوليد، فرجع نصر ورد تلك الهديايا واعتق الرقيق وقيم حسان الجواري في ولده وخاصته، وقسم تلك الآنية في عوام الناس، ووجه العمال وأمرهم بحسن السيرة، وايتعمل منصور أخاه منظراً على الري وخراسان فلم يمكنه نصر من ذلك وحفظ نفسه والبلاد منه ومن أخيه.

.ذكر الحرب بين أهل اليمامة وعاملهم:

لما قتل الوليد بن يزيد كان على الميامة علي بن المهاجر، واستعمله عليها يوسف بن عمر، فقال له المهيربن سلمى بن هلال، احد بني الدؤل بن حنيفة: اترك لنما بلادنا، فأبى، فجمع له المهير وسار إليه وهو في قصره بقاع هجر، فالتقوا بالقاع، فانهزم علي حتى دخل قصره، ثم هرب إلى المدينة، وقتل الميهير ناساً من أصحابه، وكان يحيى بن أبي حفص نهى ابن المهاجر عن القتال فعصاه، فقال:
بذلت نصيحتي لبني كلاب ** فلم تقبل مشاورتي ونصحي

فدالبني حنيفة من سواهم ** فإنهم فوارس كل فتح

وقال شقيق بن عمرو السدوسي:
إذا أنت سالمت المهير ورهطة ** أمنت من الأعداء والخوف والذعر

فتى راح يوم القاع روحة ماجدٍ ** أراد بها حسن السماع مع الآجر

وهذا يوم القاع.
وتأمر المهير على اليمامة، ثم إنه مات واستخلف على اليمامة عبد الله بن النعمان أحد بني قيس بن ثعلبة بن الدؤل، فاستعمل عبد الله بن النعمان المندلث ابن أدريس الحنفي على الفلج وهي قرية من قرى بني عامر بن صعصعة، وقيل: هي لبني نميم، فجحمع له بنو كعب بن ربيعة بن عامر ومعهم بنو عقيل وأبو الفلج المندلث وقاتلهم، فقتل المندلث وأكثر أصحابه ولم يقتل من أصحابه بني عامر كثير أحد، وقتل يومئذ يزيد بن الطثرية، وهي أمه نسبت إلى طثر بن عمر بن وائل، وهو يزيد بن المنتشر، فرثاه أخوه ثور بن الطثرية:
أرى الأثل من نحو العقيق مجاوري ** مقيماً وقد غالت يزيد غوائله

وقد كان يحمي المحجرين بسفه ** ويبلغ أقصى حجرة الحي نائله

وهو يوم الفلج الأول فلما بلغ عبد الله بن النعمان قتل المندلث جمع ألفاً من حنيفة وعغيرها وغزا الفلج، فلما تصاف الناس انهزم أبو لطيفة بن مسلم العقيلي، فقال الراجز:
فر أبو لطيفة المنافق ** والجفونيان وفر طارق

لما أحاطت بهم الوارق طارق بن عبد الله القشيري، والجفونيان من بني قشير.
وتحللت بنو جعدة البراذع وولوا فقتل أكثرهم، وقطعت يد زياد بن حيان الجعدي فقال:
أنشد كفاً ذهبت وساعدا ** أنشدها ولا أراني واجدا

ثم قتل. وقال بعض الربعيين.
سمونا لكعب بالصفائح والقنا ** والخيل شعثاً تنحني في الشكائم

فما غاب قرن الشمس حتى رأيتنما ** نسوق بني كعب كسوق البهائم

بضرب يزيل الهام عن سكناته ** وطعن كأفواه المزاد الثواجم

وهذا اليوم هو يوم الفلج الثاني.
ثم إن بني عقيل وقشيراً وجعدة ونميراً تجمعوا وعليهم أبو سهلة النميري فتلوا من لقوا من بني حنيفة بمعدن الصخراء وسلبوا نساءهم، وكفت بنو نمير عن النساء. ثم إن عمر بن الوازع الحنفي لما رأى ما فعل عبد الله بن العنعمان يوم لفلج الثاني قال: لست بدون عبد الله وغيرهممن يغير، وهذه فترة يؤمن فيها عقوبة السلطان. فجمع خيله وأتى الشريف وبث خليه، فاغارت وأغار هو، فملئت يداه من الغنائم وأقبل ومن معه حتى أتى النشاش، وأقبلت بنو عامر وقد حشدت، فلم يشعر عمر بن الوازع إلا برعاء الإبل، فجمع النساء في فسطاط وجعل عليهن حرساً ولقي القوم فقاتلهم فانهزم هو ومن معه وهرب عمر بن الوازع فلحق باليمامة، وتساقط من بني حنيفة خلق كثير في القلب من العطش وشدة الحر، ورجعت بنو عامر بالأسرى والنساء، وقال القحيف:
وبالنشاش يوم طار فيه ** لنا ذكر وعد لنا فعال

وقال أيضاً:
فداء خالتي لبني عقيلٍ ** وكعبٍ حين تزدحم الجدود

هم تركوا على النشاس صرعى ** بضربٍ ثم أهونه شديد

وكفت قيس يوم النشاش عن السلب، فجاءت علكل فسلبتهم؛ وهذا يوم النشاش، ولم يكن لحنيفة بعده جمع، غير أن عبيد الله بن مسلم الحنفي جمع جمعاً وأغار على ماء لقشير يقال له حلبان، فقال الشاعر:
لقد لاقت قشير يوم لاقتٍ ** عبيد الله إحدى المنكرات

لقد لاقت على حلبان ليثاً ** هزبراً لا ينام على الترات

فإن تربونا بالسياط فإننا ** ضربناكم بالمرهفات الصوارم

وإن تحلقوةا منا الرؤوس فإننا ** قطعنا رؤوساً منكم بالغلاصم

ثم سكنت البلاد ولم يزل عبيد الله بن مسلم الحنفي مستخفياً حتى قدم السري بن عبد الله الهاشمي والياً على اليمامة لبني العابس، فدل عليه، فقتله؛ فقال نوح بن جرير الخطفى:
فلولا السري الهاشمي وسيفه ** أعاد عبيد الله شراً على عكل

.ذكر عزل منصور عن العراق وولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز:

في هذه السنة عزل زيد بن الوليد بن عبد الملك منصور بن حمهور عن العراق وستعمل عليه بعده عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وقال له لما ولاه: سر إلى العراق فإن أهله بميلون إلى أبيك. فقدم إلى العراق وقدم بين يديه رسلاً إلى من بالعراق من فواد الشام، وخاف أن لا يسلم إليه منصور العمل. فانقاد له أهل الشام، وسلم إليه منصور العمل وانصرف إلى الشام ففرق عبد الله العمال وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم. فنازعه قواد أهل الشام وقالوا: تقسم على هؤلاء فيئنا وهم عدونا؟ فقال لأهل العراق: إني أريد أن أرد فيئكم عليكم، وعلمت أنكم أحق به فنازعني هؤلاء. فاجتمع أعهل الكوفة بالجبانة، فأرسل إليهم أهل الشام يعتذرون، وثار غوغاء الناس من الفريقين فأصيب منهم رهط لم يعرفوا. واستعمل عبد اللله بن عمر على شرطته عمر بن الغضبان القبعثري، وعلى خراج السواد والمحاسابت أيضاً.

.ذكر الاختلاف بين أهل خراسان:

وفي هذه السنة وقع الاختلاف بخراسان بين النزارية واليمانية وأظهر الكرماني الخلافلنصر بن سيار.
وكان السبب في ذلك أن نصراً رأى الفتنة قد ثارت فرفع حاصل بيت المال وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقاً وذهباً من الآنية التي كان اتخذها اللوليد، فطلب الناس منه العطاء وهو يخطب، فقال نصر: إياي والمعصية! عليكم بالطاعة والجماعة! فوثب أهل السوق إلى أسواقهم، فغضب نصر وقال: ما لكم عندي عطاء. ثم قال: كأني بكم وقد تبع من تحت أرجلكم شر لا يطاق، وكأني بكم مطرحين في الأسواق كالجزر المنحورة، إنه لم تطل ولاية رجل إلا ملوها، وأنتم يا أهل خراسان مسلحة في نحور العدو، فإياكم أن يختلف فيكم سفيان، وإنكمترشون أمراً تريدون به الفتنة، ولا أبقى الله عليكم! لقد نشرتكم وطيويتكم، وطويتكم ونشرتكم فما عندي منكم عشرة! وإني وإياكم كما قيل:
استمسكوا أصحابنا نحدو بكم ** فقد عرفنا خيركم وشركم

فاتقوا الله! فوالله لئن اختلف فيكم سفيان ليتمنيني أحكم أنه ينخلع من ماله وولده! يا أهل خراسان إنكم قد غمطتم الجماعة، وركنتم إلى الفرقة! ثم تمثل بقول النابغة الذبياني:
فإن يغلب شقاؤكم عليكم ** فإني في صلاحكم سعيت

وقدم على نصر عهده على خراسان من عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فقال الكرماني لأصحابه: الناس في فتنة فانظروا لأموركم رجلاً.
وإنما سمي الكرماني لأنه ولد بكرمان، واسمه جديع بن علي الأزدي المعني؛ فقالوا له: أنت لنا.
وقالت المضرية لنصر: إن الكرماني يفسد عليك الأمور فأرسل إله فاقتله أو أحبسه. قال: لا ولكن لي أولاد ذكرور وإناث فأزوج بني من بناته وبناتي من بينه. قالوا: لا قال: فأبعث إيه بمائة ألف درهم وهو بخيل ولا يعططي أصحابه شيئاً منها فيتفرقون عنه قالوا: لا، لا، هذه قوة له؛ ولم يزالوا به حتى قالوا له: إن الكرماني لو لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية لتنصر وتهود.
وكان نصر والكرماني متصافيينم، وكان الكرماني قد أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عبد الله، فلما ولي نصر عزل الكرماني عن الرياسة وولاها غيره، فتباعد ما بينهما.
فلما أكثروا على نصر في أمر الكرماني متصافيين، وكان الكرماني عزم على حبسه، فأرسل صاحب حرسه ليأتيه به، فأرادت الأزد أن تخلصه من يده، فمنعهم من ذلك وسار مع صاحب حرسه ليأتيه به، فأرادت الأزد أن تخلصه من يده، فمنعهم من ذلك وسار مع صاحب الحرس إلى نصر وهو يضحك، فلما دخل عليه قال له نصر: يا كرماني ألم يأتني كتاب يوسف بن عمر بقتلك فراجعته وقلت شيخ خراسان وفارسها فحقنت دمك؟ قال: بلى. قال: ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم وقسمته في أعطيات الناس؟ قال: بلى. قال: ألم ارئس ابنك عليا على كره من قومك؟قال: بلى. قال: فبدلت ذلك إجماعاً على الفتنة! قال الكرماني: لم يقل الأمير شيئاً إلا وقد كان أكثر منه، وأنا لذلك شاكر، وقد كان مني أيام أسد ما قد علمت فليتأن الأمير فلست أحب الفتنة. فقال سالم ابن أحوز: اضرب عنقه أيا الأمير! فقال عصمة بن عبد الله الأسدي للكرماني: إنك نريد التفنة وما لا تناله. فقال المقدام وقدامة ابنا بعد الرحمن بن نعيم العامري: لجلساء فرعون خير منكم؟إذ قالوا: أرجه وأخاه الأعراف: 111، والله لا يقتل المكرماني بقولكما! فأمر بضربه وحبس في القهندز لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ست وعشرين ومائة.
فتكلمت الأزد، فقال نصر: إني حلفت أن أحبسه ولا يناله مني سوء، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلاً يكون معه. فاختناروا يزيد النحوي، فكان معه.
فجاء رجل من اهل نسف فقال لآل الكرماني: ما تجعلون لي إن أخرجته؟ قالوا: كل ما سألت. فأتى مجرى الماء في القهندز فوسعه وقال لولد الكرماني: اكتبوا إلى أبيكم يستعد الليلة للخروج. فكتبوا إليه، فأدخلوا الكتاب في الطعام، فتعشى الكرماني ويزيد التحوي وخضر بن حكيم وخرجا من عنده، ودخل الكرماني السرب فانطوت على بطنه حية فلم تضره وخرج من السرب، وركب فرسه البشير والقيد في رجله فأتوا به عبد الملك بن حرملة، فأطلق عنه.
وقيل: بل خلص الكرماني مولى له رأى خرقاً في القهندز فوسعه وأخرجه، فلم يصلف الصبح حتى اجتمع معه زهاء ألف، ولم يرتفع النهار حتى بلغوا ثلاثة آلاف، وكانت الأزد قد بايعوا عبد الملك بن حرملة على كتاب الله وسنة رسوله، فملا خرج الكرماني قدمه عبد الملك.
فلما هرب الكرماني عسكر نصر بباب مرو الروذ وخطب الناس فنال من الكرماني، فقال: ولد بكرمان فكان كرمانياً، ثم سقط إلى هراة فصار هروياً، والساقط بين الفراشين لا أصل ثابت ولا فرع نابت؛ ثم ذكر الأزد فقال: إن يستوسقوا فهم أذل قوم، وإن يأبوا فهم كا قال الأخطل:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبنت ** فدل عليها صوتها حية البحر

ثم ندم على ما فرط منه فقال: اذكروا الله فإنه حير لا شر فيه.
ثم اجمع إلى نصر بشر كثير، فوجه سالم بن أحوز في المجففة إلى الككرماني، فسفر الناس بين نصر والكرماني وسألوا نصراً أن يؤمنه ولا يحبسه، وجاء الكرماني فوضع يده في يد نصر، فأمره بلزوم بيه.
ثم بلغ الكرماني عن نصر شيء فخرج إلى قرية له، فخرج نصر فعسكر بباب مرو، فكلموه فيه فآمنه، وكان رأي نصؤ إخراجه من خراسان، فقال له سالم بن أحوز: إن أخرجته نوهت باسمه؛ وقال الناس: إنما أخرجه لأنه هابه. فقال نصر: إن الذي أتخوفه منه إذا خرج أيسر مما أتخوفه منه وهو مقيم، والرجل إذا نفي عن بلده صغر أمره. فأبوا عليه، فآمنه وأعطى أصحابه عشرة عشرة، وأتى الكرماني نصراً فآمنه.
لما عزل ابن جمهور عن العراق وولي عبد الله بن عمر بن عبد العزيز في شوال سنة ست وعشرين خطب نصر وذكر ابن جمهور وقال: قد علمت أنه لم يكن من عمال العراق وقد عزله الله واستعمل الطيب ابن الطيب.
فغضب الكرماني لابن جمهور وعاد في جمع الرجال واتخاذ السلاح، فكان يحضر الجمعة في ألف وخمسمائة وأكثر وأقل فيصلي خارج المقصورة، ثم يدخل فيسلم على نصر ولا يجلس. ثم ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف، فأرسل إليه نصر مع سالم بن أحوز يقول له: إن والله أردت بحبسك سوءاً ولكن خفت فساداً من الناس فأتني. فقال: لولا أنك في منزلي لقتلتك، ارجع إلى ابن الأقطع وأبلغه ما شئت من خي أو شر. فرجع إلى نصر فأخبره، فلم يول يرسل إليه مرة بعد أخرى، فكان آخر ما قال له الكرماني: إني لا آمن أن يحملك قوم على غير ما تريد فتركب منا ما لا بقية بعده، فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك، ولكن أكره أن أشأم أهل هذه البلدة،وأسفك الدماء فيها. فتهيأ للخروج إلى جرجان.
المعني بفتح الميم، وسكون العين المهلملة، وبعدها نون: قبيلة من الأزد.